الخميس، 10 مارس 2011


هل تتحقق أسوأ مخاوف البشير؟
بقلم: خالد التيجاني النور
تاريخ نشر الخبر:الجمعة 11/03/2011
هل بدأت تتحقق فعلاً أسوأ مخاوف البشير؟. عند مخاطبته لاجتماع مجلس الوزراء في الثلاثين من سبتمبر الماضي, قبل أشهر قليلة من إجراء الاستفتاء على تقرير المصير الذي أفضى إلى اختيار انفصال الجنوب, أعرب الرئيس عمر البشير عن خشيته من حدوث السيناريو الأسوأ في تاريخ السودان "ان نقسم البلاد ويحدث الانفصال, ثم تعود الحرب بين الشمال والجنوب", وقال إن حكومته قبلت بمغامرة تقرير المصير في اتفاقية السلام وتعريض وحدة السودان للخطر رجاء أن يكون ثمن ذلك استدامة السلام في بلد عرف الحرب الأهلية الأطول عمراً من بين نظيراتها ليس في القارة الإفريقية وحدها بل على امتداد العالم.
على أي حال لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يعلن فيها الرئيس البشير موقفه من قضية الوحدة والانفصال, أو بالأحرى المفاضلة بين استمرار الحرب أو السلام, فقد كان رأيه منذ وقت طويل حتى قبل الشروع في جولات المحادثات المتعددة التي بدأت منذ العام 2002 والتي أفضت إلى تسوية نيفاشا, أن حدوث الانفصال مع تحقيق السلام أفضل من الوحدة مع استمرار الحرب.
غير أنها كانت هي المرة الأولى التي يتحدث فيها عن سيناريو ثالث حين حذر, في تصريحه الأخير, من أن يواجه السودان السيناريو الأسوأ, أن يتم تقسيم البلاد ومع ذلك تعود الحرب, أي أن يتم تجاوز المعادلة التي كانت مرجوة من اتفاقية السلام وهي تحقيق استدامة السلام على أقل تقدير مقابل التضحية بوحدة البلاد إلى خلق واقع أسوأ, والمعطيات الراهنة تؤشر بالفعل إلى بداية تحقق السيناريو الأسوأ, خسران الوحدة بتقسيم البلاد, وعدم كسب السلام بعودة الحرب.
فقد حملت أحداث الأسبوع الماضي الدامية في منطقة أبيي, المتنازع على تبعيتها بين الشمال والجنوب, أولى إرهاصات جدية على أن عودة الحرب بين الشمال والجنوب لم تعد مجرد تكهنات تصب في خانة الاحتمالات, بل تحولت إلى نذر حرب حقيقية تعدت مرحلة (الحرب أولها كلام) إلى تعبئة قبلية حادة واستنفار مسلح, واشتباكات عنيفة راح ضحيتها الكثيرون قتلى وجرحى من قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك, وعجز تام للسلطات الرسمية في الخرطوم وجوبا على احتواء الموقف المتفجر. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها اشتباكات مسلحة بين الطرفين, غير أن هذه هي الأعنف والأكثر استدعاءً لروح الحرب الشاملة, ولا يزال في الذاكرة القتال العنيف الذي اندلع بين القوات المسلحة السودانية والجيش الشعبي في منطقة أبيي في مايو عام 2008, في سابقة هي الأولى من نوعها منذ أن جرى توقيع اتفاق وقف الاعمال العدائية بين الطرفين في أكتوبر عام 2002.
ولعل انشغال الإعلام المحلي والدولي بأحداث الثورة الليبية التي خطفت الاضواء هو الذي جعل التطورات الخطيرة التي تشهدها منطقة أبيي بعيدة عن دائرة الاهتمام دون أن يعني أن التغاضي الإعلامي عما يحدث يقلل من شأن خطورة الموقف الذي بلغ فيه التوتر بين أطراف النزاع في المنطقة حداً غير مسبوق من التصعيد الآخذ في التفاعل إلى مدى مجهول. والاستماع إلى مواقف الطرفين مباشرة بعيداً عن محاولات التخفيف الحكومي من خطورة ما يحدث يؤكد أمراً واحداً أن السلام لم يعد له وجود في المنطقة, وأن المنطق الوحيد السائد هو محاولة كل طرف فرض سياسة الأمر الواقع بقوة السلاح.
ولسنا هنا في معرض تحديد أي طرف يتحمل المسؤولية عن انزلاق الأمور نحو حرب شاملة, ولكننا في باب التنبيه إلى أن الغفلة الرسمية والشعبية عن خطورة ما يجري في منطقة أبيي, والعجز عن التعاطي مع هذه التطورات الخطيرة بما تستحقها من أولوية تعني أن الجميع سيجدون أنفسهم في وقت أقرب مما يتوقعون في أتون حرب شاملة وليست مجرد اشتباكات مسلحة محلية محدودة الأثر.
والحقيقة المرة هي أن الحكومة في الخرطوم لا تملك شيئاً لتفعله إزاء قضية منطقة ابيي البالغة التعقيد كما لا تملك القدرة على وقف قطار عودة الحرب المندفع بقوة, ولعلها اكتشفت متأخرة أنها ستدفع ثمناً باهظاً لخطأ استراتيجي تورطت فيه, بحسن نية أو بعدم تدبر كاف في العواقب, حين راهنت بحسابات غير دقيقة وفي غياب رؤية نافذة للمصالح الوطنية العليا , وعدم إدراك ووعي بمحددات ومهددات الأمن القومي السوداني, وفي ظل واقع لا توجد فيه أصلاً نظرية للأمن القومي, راهنت على افتراض وهمي يخاطر بوحدة البلاد ويعتقد أن السماح بانفصال الجنوب سيجلب السلام المستدام بالضرورة لشمال السودان, وهي نظرية غذتها دعوات شوفينية قصيرة النظر أن ذهاب الجنوب سيحقق تلقائياً النقاء الديني والعنصري للشمال ويحسم ما يسمى بـ (الجدل على تحديد هوية السودان). ومن المؤكد ان الذين كانوا يعتقدون أن تقسيم السودان سيكون مجرد نزهة يكتشفون الآن وبعد فوات الآوان أنهم لن يجدوا سبيلاً لإقامة (الدولة النقية الدين والعرق) المزعومة.
ولعل قضية أبيي تقف اليوم شاهداً على أن التفريط في وحدة السودان بثمن متوهم ان ذلك سيجلب سلاماً مستداماً, لن يؤدي إلى تفادي الحرب التي كان مؤملا ألا تعود فحسب بل يعرض ما تبقى من شمال السودان لمخاطر المزيد من الانقسام والتشرذم, فمسألة أبيي المعقدة, والتي استعصت على كل محاولات إيجاد تسوية لها, لا يمكن إيجاد حل لها إلا في إطار سودان موحد كما يثبت سابق تاريخ المنطقة, ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد بدأت مسيرة تقسيم البلاد بفصل الجنوب؟.
لم يكن الصراع في منطقة أبيي جديداً, ولا مستحدثاً, بل يعود إلى عشرات السنين, ولكنه لم يبلغ أبداً مرحلة مصيرية كما هو عليه الحال الآن, وعلى الرغم من أن جذور ذلك الصراع عميقة إلا أن القادة المحليين من زعماء القبيلتين امتلكوا دائماً البصيرة والحكمة ليس فقط لاحتواء النزاعات التي تقع بين الفينة والأخرى, بل نجحوا في صنع نموذج للتعايش الاجتماعي ظل صامداً وتتوارثه الأجيال, وكان ذلك ممكناً بفضل إدراك الطرفين أنهم مواطنون في بلد واحد, وبالتالي لم يكن الأمر يتعدى حدود الاختلافات التي يمكن معالجتها حول التبعية الإدارية داخل إطار وطن واحد.
ولكن بعد تبدل الأمور حسب استحقاقات اتفاقية السلام الشامل, وانتقال القضية إلى طور جديد تماماً تحولت فيه من مجرد ترتيبات حدود إدارية داخل بلد واحد إلى مسألة مصير ووجود متنازع عليه بين بلدين مستقلين, لم تعد حكمة القادة المحليين تسعفهم لجسر هوة الخلافات التي ازدادت عمقاً, وقد غابت قبل ذلك الرؤية الواضحة أمام الحكومة في الخرطوم وهي تقدم على إبرام تسوية تسلم فيها باحتمال الانفصال دون إدراك لمخاطر وعواقب ذلك على المصالح الوطنية, وهو ما كان يستدعي حتى وإن قبلت بخيار تقرير المصير أن يكون رهانها واحداً التصميم على تغليب خيار الوحدة مهما كانت التضحيات المطلوبة من أجل تحقيق هذا الهدف لأن فيه تحقيقا للمصلحة الوطنية, وما كان ذلك مستحيلاً, ولكن ظلت الخرطوم تتعامل بدم بارد مع استحقاق تقرير المصير وقد استوى عندها خيارا الوحدة والانفصال, فلا هي قامت بعمل جاد للحفاظ على الوحدة, ولا هي بذلت الجهد المطلوب لدفع الانفصال, وأنكى من ذلك أنها فتحت الأبواب مشرعة للانفصاليين الشماليين الذين ما تركوا سبيلاً واحداً يمكن أن يقنع الجنوبيين بالتصويت لصالح الوحدة إلا وأغلقوه أمامهم, في أوضح دليل على مدى الاستهتار بقضية الوحدة الركيزة الأهم للحفاظ على المصالح الوطنية العليا.
لقد كانت أكثر الأمور مدعاة للاستغراب في اتفاقية السلام الشامل, التي يتأكد يوماً بعد يوم أنها لن تحقق اعتباطاً السلام الشامل الذي تفاءلت به, أن الحكومة السودانية التي أعياها التفاوض مع الحركة الشعبية للوصول إلى تسوية وطنية بشأن قضية أبيي, تغاضت عن المخاطر المستقبلية لها على الرغم من التعقيدات المحيطة بها, ومع ذلك لم تتوان عن الدفع بالملف إلى العراب الأمريكي لعملية السلام الشيخ جون دانفورث, الذي تورد الاتفاقية نصاً بأن مبادئ الاتفاق بشأن أبيي التي اقترحها هي التي قبل بها الطرفان لتشكل أساس الحل, وقد تبين لاحقا أنها شكلت قنبلة موقوتة سيؤدي انفجارها إلى نسف عملية السلام برمتها والعودة إلى مربع الحرب.
إذ عند أول اختبار للمقترح الأمريكي اكتشفت الخرطوم أنها (اشترت الترام) عندما قررت لجنة الخبراء بمفوضية حدود أبيي التي شكلت برئاسة سفير واشنطن الأسبق لدى السودان دونالد بيترسون تبعية المنطقة للجنوب, ليثور المسيرية وقد اتهموا الحكومة بطعنهم في الظهر, وكانت المفارقة أن الخرطوم بدت كمن لدغ بذلك التقرير الذي جرى تقديمه بسرعة فائقة بعد أقل من اسبوع من بدء الفترة الانتقالية, وهو التي كان مقرراً حسب الاتفاقية أن يستغرق إنجازه عامين, لقد كانت غفلة الخرطوم أعمق من ذلك وبدا أنها تغط في سبات عميق حين وافقت على أن يرأس لجنة الخبراء السفير بيترسون الذي أوسع قادة الحكومة السودانية نقداً لاذعاً في كتابه (السودان من الداخل) الذي اصدره نهاية التسعينيات عن أيام سفارته الجهنمية في الخرطوم في النصف الأول من ذلك العقد, ولكن لا يبدو أن أحداً هنا يقرأ.
وكرت مسبحة البحث عن تسوية خارجية لمأزق أبيي, وجاء الذهاب إلى محكمة التحكيم الدولية بلاهاي التي احتكم إليها الطرفان بعد رفض الخرطوم لتقرير بيترسون, وبعد اشتباكات عسكرية عنيفة بين الجيشين منتصف العام 2008, ومرة أخرى لم تفلح الوصفة الدولية الجديدة التي قدمتها محكمة لاهاي والتي حاولت ترضية القبيلتين بتنازلات متبادلة محدودة بأكثر مما اجتهدت في إصدار حكم على أسس وحيثيات قانونية, وكما هو متوقع لم يفض ذلك إلى نيل رضى كلا الطرفين, لتبقى جذور الأزمة باقية تكمن تارة وتشتعل تارة آخرى, لكن في كل الأحوال كان الوصول إلى حل سلمي نهائي للقضية بعيد المنال.
والحقائق الماثلة اليوم على الارض والمعطيات السياسية التي أفرزتها اتفاقية السلام بانفصال الجنوب تكاد تجعل الأفق مسدوداً تماماً أمام إيجاد تسوية لأزمة أبيي التي تحولت إلى مأزق حقيقي, والتاريخ يشهد أن معالجة قضية ابيي ظلت دائماً ممكنة في ظل سودان موحد, أما وقد أصبح الانفصال واقعاً فقد تحولت القضية إلى صراع كسر عظم لا مجال للتنازلات فيه, وفي ظل تمسك الأطراف المحلية بمواقفها الصلبة من القضية ستحولها إلى وضع أشبه بأزمة كشمير التي لازمت انفصال باكستان عن الهند العام 1947, ولا تزال خميرة عكننة وسببا لاندلاع الحرب بين الطرفين في أي وقت.
وما يهدد بعودة الحرب الأهلية في السودان لا يقتصر على الوضع المأزقي في أبيي وحدها, فالمشورة الشعبية الملتبسة التي أقرتها اتفاقية السلام بشأن ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان واللتان شكلتا إلى جانب أبيي ما كان يعرف يقضية المناطق الثلاث إبان مفاوضات نيفاشا, مرشحة هي الأخرى للتأزم إلى حد استدعاء الحرب وقد بدت تلوح دعوات للحكم الذاتي في النيل الأزرق, وقد تعقبها جنوب كردفان التي يشتد الصراع الانتخابي فيها هذه الأيام, ومع وجود عشرات الآلاف من جنود الجيش الشعبي الذين ينتمون لهاتين المنطقتين, فإن الصراع بينهما والخرطوم لن يقتصر على الجدل السياسي, فالسلاح سيكون حاضراً فيها.
إنها الحرب إذن تطل من جديد, نعم للأسف سيتحقق السيناريو الأسوأ, خسرنا الوحدة ولم نكسب السلام, لأن الفارق شاسع بين الوعي والعمل على تحقيق المصالح الوطنية العليا, وبين السعي بلا أفق وراء المصالح الحزبية الضيقة.

ليست هناك تعليقات: